مكرم جاد الكريم.. عاش ملكا للصورة ومات تائها مع الزهايمر
اختبأ داخل براميل الزيوت فوق السيارات لتوثيق حرب اليمن.. سجل نكسة 67 وسط أهوال القنابل وخطر نشر الصور.. رفض بيع صور اغتيال السادات مقابل مبلغ خرافي.. وحصد جوائز عالمية
تحرير:صابر العربي١٧ يوليه ٢٠١٩ - ٠٤:٤٢ م
حالة أشبه بالنفير العام في محيط النصب التذكاري بمدينة نصر، يوم 6 أكتوبر عام 1981، الجميع يتحرك في خطوط مرسومة ومحددة، الجنود لهم الساحة الواسعة، حرس الرئاسة يؤمن المنصة، بينما الصحفيون والمصورون ينتشرون في الأماكن المخصصة لهم، وفي المشهد يظهر رجل يحمل 4 كاميرات، يتحرك نحو قاعدة خشبية ترتفع عن الأرض مترا ونصف المتر في الجهة المقابلة للمنصة، لم يخطر ببال أي مصور التحرك نحو هذه النقطة، إلا أن مكرم جاد الكريم كان مختلفا بعين ثاقبة وحدس لا يجاريه فيه أحد، يعرف من أين يصنع الحدث وتولد اللقطة.
لم تمر إلا دقائق، وكان تاريخ مصر على موعد مع لحظة تغير مساره، وحدث جلل لا يحتاج إلا من يسجله، لكن هول المشهد كان يحتاج رجالا من نوعيات خاصة.. وصل موكب الرئيس أنور السادات، الجميع يجري صوبه لالتقاط الصورة الصحفية، ظل جاد الكريم مترقبا، ليست هذه اللقطة! هنا وقد استقر الجميع في مكانه، وكانت المفاجأة.
وابل
لم تمر إلا دقائق، وكان تاريخ مصر على موعد مع لحظة تغير مساره، وحدث جلل لا يحتاج إلا من يسجله، لكن هول المشهد كان يحتاج رجالا من نوعيات خاصة.. وصل موكب الرئيس أنور السادات، الجميع يجري صوبه لالتقاط الصورة الصحفية، ظل جاد الكريم مترقبا، ليست هذه اللقطة! هنا وقد استقر الجميع في مكانه، وكانت المفاجأة.
وابل طلقات من داخل العرض العسكري يصوب نحو المنصة، الرصاص ينصب في اتجاه الرئيس السادات، صاحب جائزة نوبل للسلام.. لحظة غريبة لم تعتدها مصر، لكن وحده جاد الكريم، دون زملائه، كان يقف وحيدا في موقعه المميز، بكل ثبات حسد عليه، يوثق حادث الاغتيال بأدق تفاصيله، ويلتقط أحسن صورة صحفية في العالم، ليكون المصري الوحيد المتوج بنوبل في التصوير.
حفر جاد الكريم، بعدسته مسيرة أسطورية في عالم الصورة الصحفية لم ينبش أحد مساراتها، حتى مر به العمر وبعدت عنه الأضواء وتوارى وحيدا تائها فاقدا عدسته التي كان يبصر بها، حتى جاء يوم 4 يوليو الماضي، ليوثق اللقطة الأخيرة للصورة الوحيدة التي يستحيل على ملك الصور مكرم جاد الكريم التقاطها، إذ غادر عالمنا عن عمر يناهز 80 عامًا، وشهدت جنازته حضور عدد من المصورين الصحفيين ممن يكنون له التقدير لما له من قيمة وقامة، ومن شاءت الأقدار أن يتتلمذوا على يداه.
كنا نروح الجورنال الصبح نلاقي أستاذ مكرم موجود.. كان بييجي امتى مش عارفين؟ واكتشفنا بعد كده أنه كان بيشتغل 18 ساعة
أفضل مصوري القرن العشرين
يعد جاد الكريم، أول مصري يحصل على جائزة "وورلد برس فوتو"، وهي كبرى جوائز التصوير، عن صوره في "حادث المنصة واغتيال السادات"، كما أنه صاحب أهم صور في توثيق حروب اليمن والاستنزاف و6 أكتوبر وتشاد والخليج.
وحصد الكثير من الجوائز الأخرى، منها جائزتان من نقابة الصحفيين 1987 و1988، وجائزة التفوق الصحفي من الصحفيين عام 1981، وجائزة أحسن صور صحفية في حرب البوسنة 1986 من القوات المسلحة، وجائزة القوات المسلحة لأفضل صور صحفية عام 1993، كما فاز بـ4 جوائز عالمية من هولندا، وجائزة من النادي الصحفي الأمريكي فيما وراء البحار، واختارته مجلة "بارى ماتش"، كأحد أهم وأفضل 10 مصورين في القرن العشرين، كما حصل على جائزة أفضل صورة للعام من هولندا والتي تُعتبر بمثابة "نوبل التصوير"، عن حادث المنصة.
3 مهارات ونصيحة العمر
من عاشروا الأستاذ مكرم، سردوا في حديثهم لـ"التحرير"، ما وجدوه فيه من مهارات، وما تعلموه منه، "علمني إزاي أكون سريع ولماح.. وإزاي أحضر للحدث قبل ما أنزل أصوره.. وعدم الخوف"، 3 مهارات اكتسبها خالد جمال، المصور بأخبار اليوم، من جاد الكريم.
"أستاذ مكرم هو اللي شغنلي في التصوير، أيام النيجاتيف، وكان بيبص في شغلي كادر كادر"، بتباهٍ وفرح تحدث يحيى مرسي، المصور بأخبار اليوم، عن حبه وتتملذه على يد ملك الصور، ذاكرا أحد المواقف فاز من خلالها بنصيحة يعمل بها حتى الآن، قائلا: "في مرة كنت بصور ماتش.. وسألني الأستاذ مكرم أنت أهلاوي ولا زملكاوي.. قلت له: أنا أهلاوي.. قالي: باين في التصوير من العصبية"، وكانت نصيتحه عند التصوير "انسى أنك أهلاوي أو زملكاوي، وركز في الكادر فقط".
عندما تدرج الأستاذ مكرم في المناصب ووصل لرئيس قسم التصوير 1998، كان يظل في القسم لقرابة الـ18 ساعة في العمل، حسب مرسي، الذي تحدث بضحكة بسيطة يحن بها إلى الزمن الجميل واستعاد معها سنوات الماضي كأنها ساعات معدودة مرت ليس أكثر، إذ يقول: "المواعيد كانت من 8.30 الصبح ونييجي نلاقي أستاذ مكرم موجود.. كان بييجي امتى مش عارفين؟"، مضيفا أنه اكتشف أن الأستاذ يظل أكثر من 18 ساعة ولا يترك الجورنال، ومحب للشغل أكثر من أي شىء.
خالد الباجوري، رئيس قسم التصوير في الأخبار، تشرف بالعمل تحت راية الأستاذ مكرم،، وعاشره منذ عمله في الأخبار بداية من عام 1994، متابعًا: "أستاذ مكرم تولى مهام رئاسة القسم منذ عام 1998 حتى عام 2005، وهذا الوقت الفاصل بين النيجاتيف والديجيتال".
رفض ملك الصور بيع فيلم اغتيال السادات مقابل 50 ألف جنيه وكان الدولار بنحو 60 قرشا.. لكنه كسب مبلغا أكبر بشرف المهنة
ملك الصورة صياد جوائز
أستاذ مكرم كان عارف أن المستقبل للديجيتال -وفقًا للباجوري- وكان يشجعهم على مواكبة العصر، ومن مميزات الأستاذ مكرم، هو عدم "الزهق" من الوقت، وكان يردد دائما "هي ديه شغلة المصور الصحفي.. أنه معندوش وقت.. ولو عاوز تقعد ساعتين وترجع، اشتغل موظف"، بخلاف أنه لم يكن بخيلا على شباب الصحفيين، وكان سخيا جدًا في معلوماته، وتعلم منه الباجوري أن الصورة الصحفية "رزق”.
مكرم جاد الكريم كانت له صور صحفية، جعلته يتفرد بها عن غيره في مصر تارة والعالم أجمع تارة أخرى، وحصد بها جوائز مجمعة لم يحصدها غيره في مصر، وإن كان من الصعب أن يأتي يوم ويقترب أحد من الهرم الخاص بجوائز الأستاذ مكرم.
المهمة المستحيلة
أهم صور مكرم الصحفية، هي صور توثيق حادثة اغتيال الرئيس السادات، والتي استفاض في حكي تفاصيل التقاطها المصور عبدالوهاب السهيتي، زميل مكرم جاد الكريم حينها، قائلا: "ذهبنا كل مع نفسه لتسجيل الاحتفال بنصر السادس من أكتوبر والعرض العسكري في 6 أكتوبر 1981، وتحت منصة النصب التذكاري للجندي المجهول انتظرنا حتى حضور الرئيس السادات ونائبه مبارك ووزير الدفاع (الجديد) محمد عبدالحليم أبوغزالة، الذين حضروا بزيهم العسكري المصمم خصيصا للقادة الثلاثة وبخطى عسكرية، وضع الرئيس إكليلا من الزهور".
يضيف السهيتي: "أمام المنصة اهتزت إحدى السيارات التي تجر خلفها مدفعا حتى توقفت تماما، ولم أتمكن من رصد الحدث جيدا، وسمعنا طلقات رصاص وهرج ومرج، والأمن يجري في كل اتجاه إلا ضابطا واحدا الذي ظهر يطلق أعيرته من خلال (طبنجة) لم تساعده في تحقيق هدفه هو عصام شحاتة أحد ضباط أمن الرئاسة، ولم يتمكن من تسجيل صورة واحدة بعدما انشغل الأمن باحتجاز المصورين الصحفيين وأنا معهم، وترك الأمن المنصة لنصيبها، ووقف المصور محمد رشوان أحد مصوري الرئيس السادات لتسجيل الحدث فاستشهد أمامه في الحال على يد الجناة".
العرض المغري
"حالة من الذهول انتابت كل الحضور إلا اثنين من كبار المصورين الصحفيين هما مكرم جاد الكريم ورشاد القوصي اللذان سجلت عدساتهما الحدث من أول طلقة.. حتى نقل جسد الرئيس من موقع الحدث.. وقام رشاد القوصي ببيع الفيلم في موقع الحدث، بينما رفض مكرم جاد الكريم بيع الفيلم مقابل 50 ألف جنيه عام 1981، حيث كان الدولار بنحو 60 قرشا" يحكي السهيتي.
رفض بيع مكرم جاد الكريم للصور، حسب تأكيدات السهيتي، يعود إلى أن الصحفيين في هذا الزمن كانت انتماءاتهم لصحفهم أقرب للانتماء إلى أديانهم، وأن التفريط في انفرادات الجريدة هو تفريط في الشرف المهني، وبعد تسليم فيلمه لمؤسسته قام الأستاذ موسى صبري بصرف مكافأة مالية له، فضلا عن حصوله على نسبة من متحصلات بيع الصور للصحف والوكالات، وتعدى ما حصل عليه جاد الكريم بشرف المهنة المبلغ الذي عرض عليه لشراء انفراد جريدته بكثير.
انفرادات أخرى لمكرم جاد الكريم، في حرب اليمن، يرويها السهيتي، والتي كان يوثقها من خلال اختبائه داخل برميل وسط براميل المياه والزيوت فوق ظهر السيارات، لتوثيق حرب اليمن، كما سجل مكرم نكسة 67 وسط أهوال المدافع والقنابل وطلقات الرصاص.. إلا أن حظه العثر أن هذه الصور لم يرها حتى الآن إلا عدد محدود من الصحفيين وقادة القوات المسلحة لحظر نشرها.
تاريخ "اتعرف متأخر".. للأسف
من حيث انتهى السهيتي، استكمل يحيى مرسي، المصور بالأخبار، مشيرا إلى أن الأستاذ مكرم انفرد بالصورة الخاصة بزيارة البابا شنودة للشيخ الشعراوي، وقيل في آخر أيام الشيخ الشعراوي إن البابا سيزور الشيخ الشعراوي، والمصورون ظلوا فترة طويلة وفقدوا الأمل أن يأتي البابا شنودة، ولم يفقد الأمل الأستاذ مكرم وهو الوحيد الذي انفرد بالصورة، وهي صورة لنوم الشيخ الشعراوي والبابا ينحني ليقبل رأسه، لتسجل واحدة من أكثر الصور تعبيرًا عن الوحدة الوطنية بين المصريين.
"للأسف الشديد تاريخ أستاذ مكرم عرفناه متأخر وعند تكريمه العام الماضي"، هذا ما جاء على لسان مجدي إبراهيم، نائب رئيس شعبة المصورين الصحفيين، منوهًا بأنهم كانوا يظنونه مثل مطرب الأغنية الواحدة والممثلة في حادثة اغتيال الرئيس السادات فقط، لكن بعد البحث وجدوا أنهم أمام قيمة صحفية لم تتكرر، ومتوقع أن يطلق اسمه على جوائز التصوير الصحفي العام الجاري.
كيف كانت آخر أيام الأستاذ مكرم جاد الكريم؟ وهل كانت النهاية تليق بما لمكرم جاد الكريم من تاريخ وجوائز لم يحصل عليها مصري سواه؟
أستاذ مكرم خرج من الأخبار ولديه عين "بايظة"، والعين الأخرى كان بها مشاكل في الرؤية، وهو ما كان سببا في حزنه، وكان يحدثنا بالعافية بعد خروجه من الأخبار في 2006، يقول خالد جمال المصور في الأخبار.
منذ عام تقريبًا "فُقد" أو"تاه" الأستاذ مكرم، لأنه كان قد أصيب بالزهايمر، وكان أول ما تذكره عندما وجده المصورون في الشارع، هو "الشغل والتصوير"، حسب ما أوضحه خالد جمال، مضيفًا أنه بمجرد ما وجدوه أودعوه بدار رعاية مسنين بإحدى الكنائس في الزيتون "لأنها أولى به"، وذلك لوجود صعوبة في التواصل مع أسرة الأستاذ مكرم.
تلك الصعوبة وجدتها "التحرير" أيضًا في التواصل مع أسرة الأستاذ مكرم.
مكرم جاد الكريم قيمة صحفية كبيرة، لماذا لم تبلغوا الجهات المسؤولة بالدولة عن حالته لينال ما يستحقه من رعاية؟ سؤال طرحته "التحرير"، فأجاب، خالد جمال: "جهات الدولة ممثلة في وزارة التضامن.. وبصراحة خفنا أن تتم المتاجرة بيه". والكنيسة رفضت أي مبالغ مالية من المتطوعين من المصورين، يضيف يحيى مرسي، أن عددا من المصورين الكبار المهاجرين في الخارج تواصلوا مع الكنيسة لمساعدة أستاذ مكرم بأي مبالغ مالية، ولكن الكنيسة رفضت، ومكث في الكنيسة حتى وفاته.